"الماك" تُذيق الجزائر من كأس "تقرير المصير".. وتستعد لإعلان "استقلال القبائل" غدا الأحد، استنادا إلى "التاريخ والنضال"
في الجزائر، لم تعُد السلطات مع دعوات تقرير المصير في منطقة القبائل، على أنه مجرد مطالب صادرة عن حركة يستقر قاداتها في المنفى الفرنسي، أو كورقة ضغط يحركها المغرب بين الفينة والأخرى للرد على الدعم الجزائري المستمر منذ خمسين عاما للطرح الانفصالي في الصحراء، إذ بسرعة تحول الأمر إلى "تهديد حقيقي"، قد يُفضي مستقبلا إلى اقتطاع مساحات واسعة من شمال البلاد، ذات الموقع الساحلي الاستراتيجي، لإنشاء دولة جديدة.
الأمر تحول، تدريجيا إلى "حقيقة"، فحركة تقرير المصير في منطقة القبائل، التي تستند إلى مصادر تاريخية موثقة وإلى تمايز واضح في الثقافة والعادات والتقاليد واللغة بين الأراضي التي تريد لها "تقرير المصير" وبين غيرها من التراب الجزائري، تستعد غدا، 14 دجنبر 2025، لإعلان "الاستقلال"، في خطوة تبدو الآن رمزية، لكنها قد تكون كرة الثلج التي تبدأ صغيرة، ثم تكبر تدريجيا حتى تقتحم على السلطات الجزائرية أبواب الأمم المتحدة وعواصم العالم.
استنفار في القبائل
الخطوة التي كشفت عنها فيديوهات سكان مدن القبائل عبر منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة المدينة الأكبر، تيزي وزو، المتمثلة في فرض السلطات الجزائرية على أرباب المحلات التجارية والخدماتية رفع علم البلاد، تؤكد أن قصر المرادية يتعامل مع إعلان فرحات مهني، رئيس جمهورية القبائل في المنفى، والذي يقود الحركة من أجل تقرير المصير من فرنسا، بكثير من الجدية، على الرغم من أن البروباغاندا الرسمية تتحدث عن "رفض" سكان الشمال لدعوات "الانفصالي" والإصرار على "انتمائهم للجزائر".
قبيل إعلان استقلال منطقة القبائل… السلطات الجزائرية تُلزم تجار القبائل بتعليق العلم الوطني pic.twitter.com/TksTyZNz0i
— الصحيفة - Assahifa (@assahifa_ar) December 12, 2025
الأخبار التي تأتي من ولايات القبائل، مثل تيزي وزو وبجاية وبومرداس وسطيف وجيجل، تشي بأن المنطقة تعيش حالة استنفار أمني، منذ أن حددت الحركة الداعية للاستقلال، المعروفة اختصارا بـ"الماك" والتي تُصنفها الجزائر كحركة "إرهابية"، اختيارَ يوم 14 دجنبر لإعلان "الاستقلال" من باريس، فالسلطات تخشى أن يلي ذلك تحرك ميداني للأهالي الذين سبق لهم مرارا أن عبروا عن ميولاتهم باعتبارهم "ليسوا جزائريين"، خصوصا خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية والتعديلات الدستورية منذ 2019، عندما سجلوا نسب مقاطعة قياسية.
وتعلم السلطة الحالية التي تقود بالبلاد، الممثلة في رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وخلفه رئيس أركان الجيش السعيد شنقريحة، أن العلاقة مع القبائليين ليست جديدة، خصوصا بعد مقاطعة الاستحقاقات الانتخابية وحرائق سنة 2021 وما رافقها من أحداث مأساوية، ثم تصنيف "الماك" حركة إرهابية مع ما تتمتع به من شعبية في المنطقة، ورفضها الدائم للعمل المسلح، ولم ينجح الاعتراف بالأمازيغية كلغة رسمية في دستور 2020، ولا زيارة تبون لتيزي وزو في 2024، تحت إجراءات أمنية مشددة، في ردم الهوة بين الطرفين.
مطالب يدعمها التاريخ
رغم أن مطالب "الاستقلال" وصلت الآن إلى نقطة غير مسبوقة، إلا أن خلف ذلك تاريخ طويل جدا يمتد لقرون، إذ تستند "الماك" والتي أعلنت منذ نحو عقد ونصف عن إنشاء ما تصفه بـ"حكومة القبائل في المنفى"، إلى تصور يعتبر أن سكان القبائل لا ينتمون إلى الهوية الجزائرية، ويُرجع أنصار هذا الطرح جذوره التاريخية إلى القرن الرابع عشر، حين بدأت عدة مناطق في الانفصال التدريجي عن سلطة الدولة الزيانية، التي كانت تحكم أقصى شمال المجال الجغرافي للجزائر الحالية ما بين سنتي 1236 و1556.
وخلال تلك المرحلة، بدأ القبائليون في إقامة كيانات وإمارات مستقلة داخل المناطق الناطقة بالأمازيغية، التي تسمى الآن "بلاد القبائل" غير أن هذا المسار لم يدم طويلا، إذ سرعان ما تحولت المنطقة إلى مجال صراع بين قوى توسعية متعددة، بالنظر إلى موقعها الإستراتيجي وإشرافها على البحر الأبيض المتوسط.

وفي هذا السياق، سقطت المنطقة تحت السيطرة العثمانية عقب الانتصار الحاسم الذي حققوه في معركة "باب الواد" ضد التحالف الصليبي الذي كان يقوده ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية، شارل الخامس.
ومنذ القرن السادس عشر، أُلحقت القبائل بـ"إيالة الجزائر" العثمانية، واستمر هذا الوضع إلى غاية دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1830، وهو ما فتح، بحسب الطرح القبائلي، مرحلة جديدة من الصراع من أجل الاستقلال.
وبلغ هذا المسار ذروته مع المقاومة التي قادتها فاطمة نسومر بين سنتي 1854 و1857، قبل أن يتم أسرها وإنهاء حركتها المسلحة، ثم مع ثورة الشيخ محمد المقراني سنة 1871 التي انتهت بمقتله، وعقب هاتين المحطتين، أقدمت فرنسا على ضم الأراضي القبائلية رسميا إلى ما كان يُعرف بـ"الجزائر الفرنسية"، باعتبارها مستعمرة يختلف وضعها عن وضع الحماية في المغرب وتونس.
ورغم ذلك، فإن التمايز بين بلاد القبائل والأراضي الجزائرية الأخرى ظل حاضرا ولم تُسهم السنوات الطويلة في محوه، وفي تصريحات سابقة لـ"الصحيفة"، شدد فرحات مهني، الذي يترأس "الحكومة القبائلية المؤقتة"، على أن أيّاً من الهيئات أو المؤسسات التي تمثل القبائل لم تُبدِ موافقتها على هذا الضم، سواء خلال سنة 1857 أو سنة 1871، مؤكداً أن المنطقة، وفق هذا المنظور، "كانت دائما مستقلة".
الإقصاء بعد الكفاح المشترك
في فترة الاستعمار الفرنسي، ساهمت شخصيات قبائلية وازنة في أعمال المقاومة، وكان من أبرزها الحسين آيت أحمد، أحد القيادات المؤسسة لجبهة التحرير الوطني، المزداد بمدينة تيزي وزو سنة 1926، والتي عاد إليها ليدفن بعد وفاته أواخر سنة 2015، غير أن هذا الانخراط في الكفاح الوطني لم يمنع بروز شعور متنامٍ لدى القبائليين الأمازيغ بتهميش حقوقهم الثقافية، خاصة منذ أربعينيات القرن الماضي، حين رفض حزب الشعب الجزائري، بقيادة مصالي الحاج، الاعتراف بالمكوّن الأمازيغي كجزء من الهوية الوطنية، مع التشديد على الطابع العربي للبلاد، وهو ما فجّر ما عُرف داخل الحركة الوطنية بـ"الأزمة البربرية" سنة 1949.
ومع حصول الجزائر على الاستقلال سنة 1962، لم تتبدد هذه الإشكالات، بل تعمقت في ظل تبني نظام الحزب الواحد، الذي رأى فيه عدد من القيادات التاريخية توجها إقصائيا، وكان الحسين آيت أحمد في طليعة المعارضين لهذا الخيار، إذ أسس سنة 1963 حزب "جبهة القوى الاشتراكية"، داعيا إلى التعددية السياسية واحترام الخصوصيات الجهوية والثقافية، وسرعان ما دخل هذا الحزب في مواجهة مسلحة مع الجيش الجزائري حديث التأسيس، كانت منطقة القبائل مسرحا رئيسيا لها إلى غاية 1965.

وفي خضم هذا الصراع، ألقي القبض على آيت أحمد سنة 1964، وصدر في حقه حكم بالإعدام، قبل أن يتمكن من الفرار من سجن الحراش سنة 1966 في ظروف غامضة، ومنذ ذلك الحين، تحول إلى أحد أبرز رموز المعارضة الجزائرية في الخارج، حيث اختار المنفى في سويسرا، وواصل انتقاد النظام السياسي والدفاع عن مشروع ديمقراطي تعددي، إلى أن وافته المنية هناك بعد مسار طويل من النضال السياسي.
ورغم تراجع المواجهة المسلحة، لم ينتهِ التوتر بين القبائل والسلطة المركزية، إذ عرفت المنطقة سنة 1980 محطة مفصلية جديدة، فقد أدى منع الكاتب والباحث القبائلي مولود معمري من إلقاء محاضرة حول الثقافة الأمازيغية بجامعة تيزي وزو، تزامنا مع التحضير للاحتفال بالذكرى الـ18 للاستقلال، إلى اندلاع احتجاجات واسعة شاركت فيها فئات مختلفة من المجتمع القبائلي، وفي مقدمتها الطلبة والنقابيون، ورفعت هذه التحركات مطالب ثقافية واضحة، أبرزها الاعتراف بالأمازيغية كمكوِّن أصيل من الهوية الجزائرية، قبل أن تواجهها السلطات بحملة من القمع والاعتقالات.
من مقر الدرك إلى الأمم المتحدة
بدأت النزعة الانفصالية في منطقة القبائل بالتشكل تدريجيا، بوصفها رد فعل مباشر على ما اعتبره النشطاء الأمازيغ سياسة قمع ممنهجة استهدفت مطالبهم الثقافية واللغوية، غير أن اندلاع ما عُرف بـ"العشرية السوداء" في تسعينيات القرن الماضي أدى إلى تراجع هذه النزعة عن واجهة المشهد العام لما يقارب عقدا من الزمن، قبل أن تعود بقوة مع حادثة 20 أبريل 2001، حين قُتل الطالب القبائلي ماسينيسا قرماح، البالغ من العمر 18 سنة، بالرصاص داخل مقر الدرك الوطني بمنطقة "بني دوالة" قرب تيزي وزو، في واقعة شبَّهَتها منظمات حقوقية بعملية إعدام خارج إطار القانون.
وفي أعقاب الحادثة، سعت وزارة الداخلية الجزائرية إلى تبرئة المؤسسة الأمنية من المسؤولية، من خلال تحميل الضحية جزءاً من اللوم، إذ جرى التلاعب بتاريخ ميلاده لإظهاره أكبر سناً، كما تم تقديمه للرأي العام باعتباره "لِصاً"، فيما وصفه وزير الداخلية آنذاك، يزيد زرهوني، بأنه مُنحل"،.
غير أن اتساع رقعة الاحتجاجات في منطقة القبائل أجبر السلطات لاحقا على توقيف الدركي المتورط وإحالته على محاكمة عسكرية، دون أن ينجح ذلك في امتصاص الغضب الشعبي، حيث استمرت المظاهرات والاعتصامات لأكثر من عام كامل فيما أصبح يُعرف بـ"الربيع الأسود"، الذي واجهته السلطات بقمع شديد أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 126 شخصا.
وأفضت هذه الأحداث إلى تحولات سياسية عميقة داخل المشهد القبائلي، كان أبرزها بروز "الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل" المعروفة اختصاراً بـ"الماك"، التي تأسست سنة 2001 ورفعت مطلب استقلال المنطقة عن الدولة الجزائرية مع تبني خيار "السلمية"، وفي سياق تدويل قضيتها، أعلنت الحركة سنة 2010 عن تشكيل "حكومة قبائلية في المنفى" انطلاقاً من باريس، قبل أن تتوجه سنة 2013 إلى عدد من الدول الأوروبية مطالبة باتخاذ إجراءات عقابية ضد الجزائر على خلفية ما وصفته بانتهاكات حقوق الإنسان في منطقة القبائل.
ورغم محاربها من طرف السلطات الجزائرية، حققت الحركة الأمازيغية مكاسب سياسية ودستورية بعد مسار طويل من المواجهة مع السلطة المركزية، من بينها قبول الدولة سنة 2002، ولأول مرة، الدخول في مفاوضات مع "حركة العروش" التي كانت تقود احتجاجات القبائل، ثم التنصيص على الأمازيغية لغة وطنية في الدستور، قبل أن تُرفع إلى مصاف اللغات الرسمية في دستور 2020، غير أن هذه التنازلات لم تكن كافية لوقف الدعوات إلى الاستقلال، في ظل شعور متزايد لدى شريحة من القبائليين بأن منطقتهم ما تزال تعاني من تهميش ممنهج على المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وظلت تحركات "الماك" مزعجة جدا للجزائر، خصوصا وأن تواجدها في المنفى سلط ضوء الحركات الحقوقية ووسائل الإعلام الأجنبية عليها، فقد قدمت بتاريخ 28 شتنبر 2017، مُذكرة رسمية إلى الأمم المتحدة تدعو فيها إلى الاعتراف بـ"الحق المشروع لشعب القبائل في تقرير المصير"، وفي 20 أبريل 2024 أعلنت تأسيس "دولة القبائل" تزامنا مع الذكرى الرابعة والأربعين لمظاهرات 1980 التي عُرفت باسم "ربيع الأمازيغ"، لتصل اليوم إلى مشروع إعلان "الاستقلال الرمزي".




